فصل: مطلب أول جمعة أقيمت في الإسلام وفضلها والعمل بها وسبب تسميتها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب الفرق بين إن النّافية والمخففة ومما يدل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم والفرق بين لم ولما:

ووجود اللام في {لَفِي} دليل عليها وتسمى اللام الفارقة بين النّافية التي هي بمعنى ما وإن المخففة، لأن اللام لا تأتي بعد إن النّافية {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} عطف على الأميين وهم كلّ من آمن بهذا النّبي الأمي واتبع دينه إلى يوم القيامة {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} لم يدركهم وسيجيئون بعدهم، أي فكما أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث لأهل مكة ومن حولها في ذلك الزمن مبعوث أيضا للأجيال الحادثة الآتية بعدهم وهذه الآية أيضا فيها دلالة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم التي المحنا إليها في الآية 28 من سورة سبأ وعلى كونه خاتم الأنبياء كما أشرنا في الآية 40 من سورة الأحزاب المارة، وعلى فضله العام المنوه به في الآية 253 من سورة البقرة المارة ولهذا البحث صلة في الآية 158 من سورة الأعراف فراجعها.
واعلم أن النفي بلمّا متصل إلى زمن التكلم بخلاف النّفي بلم فإنه منقطع عنه، فإذا قلت جئت ولم يأت زيد مثلا فيحتمل أنه جاء بعد مجيئك، وإذا قلت ولما يأت فيكون المعنى لم يأت إلى زمن التكلم.
هذا وجاء في الحديث المخرج في الصّحيحين عن أبي هريرة قال: «كنا جلوسا عند النّبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم إلخ قال له رجل يا رسول اللّه من هؤلاء الّذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا، قال وسلمان الفارسي فينا فوضع رسول اللّه يده على سلمان وقال والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء».
راجع الآية الأخيرة من سورة القتال سورة محمد صلى الله عليه وسلم المارة لتعلقها بهذا البحث.
واعلم أن هذا الحديث لا يخصص الآية بالفرس والأكراد ولا يقيدها بهم كما قال بعضهم لأن الآية عامة فيهم وفي غيرهم إلى يوم القيامة من كلّ من يأتي بعد ويدين بدين الإسلام من الملل والنّحل كافة، لأن المسلمين أمة واحدة عربهم وعجمهم أبيضهم وأحمرهم أسودهم وسمرهم وأصفرهم {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) الذي أيد هذا النبي الأمي ومكّنه في أمره العظيم ونصره على من أرسله إليهم ونشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها {ذلِكَ} الفضل الذي خص به هذا الرّسول المحترم هو {فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} من عباده برحمته ولطفه لا بعمل ولا بقوة قال في الجوهرة:
ولم تكن نبوة مكتسبة ** ولو رقى في الخير أعلى عقدة

وقال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ} الآية 124 من سورة الأنعام ج 2 {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (4) على خلقه ومن أعظم فضله عليهم إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لهدايتهم وإنقاذهم من الظّلمات إلى النّور، وأعظم فضله على أنبيائه أن خصهم برسالته، وجعلهم هداة لخلقه.
واعلم أن مطلق الفضل يمنّ به اللّه على من يشاء من عباده، وقد يكون لسبب اجتهاد العبد سواء كان دنيويا أو أخرويا أما النّبوة فلا تكون بالاجتهاد أبدا ولو قام اللّيل وصام النّهار طول عمره وتصدق بجميع ما عنده.
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ} فكلفوا علمها والعمل بها من الحمالة بالصدر والقلب لا من الحمل على الظّهر أو الأيدي {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها} فلم يعملوا بها ولم يقوموا بحقها ولم يؤدوا ما افترضه اللّه عليهم بها، لأن من علم الشيء ولم يعمل به فكأنه لم يعلمه، فمثله في حالة هذه {كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفارًا} كتبا عظاما جمع سفر وهو الكتاب الكبير الضّخم فوبخهم اللّه تعالى على مبلغ علمهم فيما أنزله إليهم وصدودهم وحدهم عنه بقوله جل قوله: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} المنزلة على رسوله لإرشادهم {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)} أنفسهم لعدم قبولهم نعمة اللّه وتكذيبهم بآياته ولا يوجد بالقرآن آية مبدوءة بكلمة بئس إلّا هذه والآية 11 من الحجرات المارة وهذا مثل ضربه اللّه لليهود والّذين أعرضوا عمّا في التوراة وعن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما أعرضوا عن الإيمان بعيسى عليه السلام إذ لم ينتفعوا بما فيها ولا بما تلقوه من آثار الأنبياء السّالفين فلم يهتدوا بهديهم، لأن من جملة هدى التوراة والأنبياء الّذين عملوا بها الإيمان بالرسل الّذين يأتون بعد موسى الّذين منهم عيسى ومحمد وقد كفروا بهما، ولذلك شبهوا بالحمار الذي يحمل الكتب على ظهره ولم يدر ما هي فلا ينتفع بها، ولا فرق عنده بين أن يحملها أو يحمل حطبا، وهذا المثل يدخل فيه من يقرأ القرآن ولم يعمل به ولم يفهم مراده من معانيه، ولا مغازيه من مراميه، ولم يفطن لما انطوى عليه من حكم وعلوم، وكذلك من أعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه وهجره في بيته كالمتاع الذي لا يسأل عنه، وهؤلاء هم الّذين شكاهم الرّسول إلى ربه بقوله تعالى: {وَقال الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا القرآن مَهْجُورًا} الآية 21 من الفرقان.
ويدخل هذا في قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} الآية 124 من سورة طه.
ومما يؤسف أن أكثر أهل هذا الزمن هكذا وخاصة الشّباب الّذين لا يهمهم شأنه لانصرافهم إلى الكتب الحديثة التي لا علاقة لها بالدين والقرآن وتوغلهم في الرّوايات والقصص وغيرهما مما هو كذب وتخيل، وترى الفصيح منهم يقرأ السفر فلا يغلط فيه وإذا قرأ آية من القرآن يتخبط فيها فلا حول ولا قوة إلا باللّه، يا ويح آبائهم ويا خسارتهم اللّهم اهدهم وسائر المسلمين إلى سواء السّبيل واحفظهم من أن يدخلوا في معنى هذه الآية قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} محمد فمن دونه وتقولون نحن أبناء اللّه وأحباؤه {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} (6) في زعمكم لأن ما بينكم وبين اللّه إلّا الموت والمحب حريص على الاجتماع مع محبوبه وسريع الطّلب إلى الالتحاق به والآخرة لأحباب اللّه خير من الدّنيا ولكنكم كاذبون في دعواكم قال تعالى ردا على زعمهم هذا {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من الكفر المبعد عن الإيمان باللّه فضلا عن تلبسهم بالجحود والظّلم {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (7) أمثالهم الّذين يكرهون الموت لما فيه من الويلات عليهم وتهالكهم على الدّنيا وتكالبهم على البقاء راجع الآية 96 من البقرة المارة المصدرة بلن وهذه بلا وكلاهما نفي للمستقبل إلّا أن لن أكد من لا بالنفي وقد جاءت الآية الأولى بالتأكيد وهذه بدونه قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} حتما لا ينجيكم منه أحد ولا مهرب منه راجع الآية 78 من سورة النساء {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (8) في هذه الدّنيا ويجازيكم بحسبه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

.مطلب أول جمعة أقيمت في الإسلام وفضلها والعمل بها وسبب تسميتها:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} أجمعت الأمة على أن المراد بهذا النّداء الأذان بين يدي الخطيب حين جلوسه على المنبر لا الأذان الأوّل على المنائر، روى البخاري عن السّائب بن زيد قال كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر النّاس زاد النّداء الثاني على الزوراء (موقع عند سوق المدينة مرتفع) زاد في رواية فثبت الأمر على ذلك ولا بي داود قال كان يؤذن بين يدي رسول اللّه إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد.
وسمى هذا اليوم جمعة لأن اللّه تعالى جمع خلق آدم فيه وفرغ فيه من خلق الدّنيا بما فيها من المخلوقات فاجتمعت فيه.
ورواه مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشّمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنّة وفيه أخرج منها ولا تقوم السّاعة إلّا في يوم الجمعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل اللّه فيها شيئا ألا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها» وأول من سماه في العرب كعب بن لؤي وكان يسمى يوم العروبة وأول من جمع النّاس فيه بالمدينة سعد بن زرارة قبل تشريف النّبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأول جمعة جمعها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة في بطن وادي بني سالم بن عوف أفتتخذوه مسجدا وقد ألمعنا لما يتعلق في هذا البحث في الآية 124 من سورة النّحل والآية 4 من سورة الدّخان والآية المذكورة تحتوي على ما يتعلق بسائر الأيام فراجعها وما ترشدك إليه من المواضع.
هذا وإذا سمعتم النّداء أيها النّاس {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} امضوا وسارعوا لا تجروا وتركضوا، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال قال صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصّلاة وعليكم بالسكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» {وَذَرُوا الْبَيْعَ} دعوه واتركوه ولبّوا داعي اللّه، ولفظ البيع يتناول الشّراء لأنه يطلق عليه {ذلِكُمْ} المبادرة إلى صلاة الجمعة وترك العمل عند سماع النّداء {خَيْرٌ لَكُمْ} عند اللّه من الانشغال في الأمور الدّنيوية كلها {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (9) ما يصلح لكم في الدّنيا ويهذب نفوسكم فيها ويوصلكم إلى خير الآخرة التي خلقتم لأجلها، قال تعالى: {ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الآية 56 من الذاريات واعلم أن ثمرة العبادة وما تشتمل عليه من الصّدق والأمانة والوفاء وإن كانت في الدّنيا الثناء والمدح وائتمان النّاس على أموالهم وأعراضهم، إلا أن ثمرتها الحقيقة الدّائمة التي ينعم بها صاحبها تكون في الآخرة.
الحكم الشّرعي يحرم البيع والشّراء وجميع الأعمال الدّنيوية عند الأذان الأخير حتى إن الفقهاء قالوا بعدم صحة العقود كلها إذ ذاك وكلّ عقد يقع آنذاك فهو باطل، ولا يجوز السّفر فيه أيضا، بدليل ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي اللّه عنه، قال: «بعث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عبد اللّه بن رواحه في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة، فغزا أصحابه وقال أتخلف فأصلي مع رسول اللّه ثم ألحقهم، فلما صلّى رآه صلى الله عليه وسلم فقال ما منعك أن تغزو مع أصحابك؟ قال أردت أن أصلي معك ثم أتبعهم، فقال لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت فضل غزوتهم».
ورأى عمر رجلا يقول لولا أن اليوم جمعة لخرجت، فقال أخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر.
وهذا أولى من القول بعدم جواز السّفر فيها بعد طلوع الفجر، لأن النّهي عن السّفر والبيع وغيره وقت الأذان الثاني، أما قبله فلا مانع وتنعقد في ثلاثة مع الإمام، ولا تصح إلّا في المصر، وبإذن الوالي، ويجوز تعددها إذا لم يوجد جامع يسع المصلين كافة بقدر الحاجة، فإذا كان يكفي المصلين جامعان فلا حاجة إلى الثالث، وهكذا كي تصح الجمعة بإجماع العلماء، أما إذا كان التعدد زائدا على الحاجة ففيه أقوال بعدم صحتها، وأقوال بصلاة الظّهر بعدها احتياطا، ويجوز تركها للمريض ولمن يتعاهده ولمن يخاف من عدو أو ظالم وعند المطر والوحل.
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه خطب في يوم ذي أرواح (جمع ريح لا روح بمعنى النّفس والأرواح بمعنى الرّاحة والرّحمة ونسيم الريح) فأمر المؤذن حينما بلغ حي على الصّلاة أن يقول الصّلاة في الرّحال، فنظر القوم فقال كأنكم أنكرتم عليّ؟ إن هذا فعله من هو خير مني، يعني النّبي صلى الله عليه وسلم وإنها عزيمة وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطّين والرّحض والزلق.
وهي فرض عين على كلّ مسلم حرّ بالغ عاقل ذكر مقيم.
أخرج أبو داود عن طارق بن شهاب أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال الجمعة حق واجب على كلّ مسلم في جماعة إلا على أربعة: عبد مملوك وامرأة وصبي ومريض، وتجب على أهل القرى والبوادي إذا سمعوا النّداء في موضع تقام فيه الجمعة.
وأخرج أبو داود عن عبد اللّه بن العاص أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة على من سمع النّداء».
وهي آكد من الظّهر إذ لأظهر لمن يصليها، وأوجب الحنفية صلاة أربع ركعات في البيت بنية آخر ظهر احتياطا من أن يكون التعدد لغير حاجته.
ولا تصلى في الجامع لئلا يعتقد العوام فرضيتها، لأن اللّه لم يفرض فريضتين بوقت واحد على عباده، وأوجب الشّافعية صلاة الظّهر حالة التعدد لعدم تحققه هل هو لحاجة أم لا، والأحسن عندهم أن تصلى في الجامع بجماعة وعليه العمل في الأمصار كافة، وتفصيل هذا البحث في كتب الفقه فلتراجع.
وسبب نزول هذه الآية هو ما رواه البخاري ومسلم عن جابر قال: «بينما نحن نصلي مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعاما فانفتلوا إليها حتى ما بقي مع النّبي صلى الله عليه وسلم إلّا اثنا عشر رجلا، فنزلت هذه وفي رواية قال والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارا وأراد باللهو ما يفعلونه عند استقبال القوافل بالطبول والتصفيق».
وشروط صحة الخطبة: حمد اللّه بما هو أهله، والصّلاة على النّبي صلى الله عليه وسلم، والوصية بتقوى اللّه، وتلاوة آية من القرآن في الخطبة الأولى، والدّعاء للمؤمنين في الثانية.
ويستحب عدم تطويلهما ويراعى أحوال النّاس والمواسم، وكان صلى الله عليه وسلم يطيل الصّلاة ويقصر الخطبة وإطالة الصّلاة في الصّبح والعشاء بحسب رغبة المصلين مطلوبة وقصرها في الظّهر والعصر والمغرب مسنون، لأنها أوقات اشتغال النّاس.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر قال كان النّبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما.
وروى مسلم عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرّحمن بن الحكم يخطب جالسا، فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، وقال اللّه تعالى: {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً} إلخ الآية قال تعالى: {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} بيعا وشراء وعملا وغيره من أسباب الرّزق {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} بعد فراغكم منها، ومن ذكر اللّه تعالى بعدها قائما وقاعدا ومضطجعا، فقد ذكر اللّه كثيرا فأديموا ذكره {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (10) بفضل إدامة ذكر اللّه، لأنه بنور القلب ويقذف فيه المعرفة التي توضح له سبيل النّجاح في كلّ الأمور.
ثم ذمهم اللّه تعالى على ما وقع منهم فقال عزّ قوله: {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْها} أي التجارة يلهون بها عن صلاة الجمعة ولقلة أدبهم انصرفوا {وَتَرَكُوكَ} يا محمد {قائِمًا} على المنبر ولم يقدروا قدرك وما تلقيه إليهم من النصح والإرشاد {قُلْ} لهم يا أكمل الخلق {ما عِنْدَ اللَّهِ} من الفضل المخبوء لكم بسبب سماع خطبته {خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ} وأعظم ريحا {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (11) لأنه يرزق بلا مقابل.
روى مسلم عن جابر قال: «كانت خطبة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد اللّه ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم مساكم ويقول بعثت أنا والسّاعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السّبابة والوسطى ويقول: أما بعد فخير الحديث كتاب اللّه وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكلّ بدعة ضلال ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا (أولادا صغارا لا أحد لهم ولا مال) فإليّ وعليّ».
تفيد هذه الخطبة أن رسول اللّه كان يزجر النّاس في خطبته ويعلي صوته فيها أحيانا لأن الوقت يستدعي ذلك، ولأن القوم حديثو عهد شرك، وإن منهم لا يزال في نفاق، وهو مرسل من اللّه لتوطيد دعائم الدّين وتوحيد رب العالمين، وقد أمر بقتال من لم يؤمن، ومن دواعي هذه الأمور الزجر وعلو الصّوت.
ومما جاء في محذورات الجمعة ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت».
وفي رواية «ومن لغا فلا جمعة له».
وروى مسلم عن عبد اللّه بن عمر وأبي هريرة «أنهما سمعا رسول اللّه يقول على منبره لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ اللّه على قلوبهم، ثم ليكوننّ من الغافلين».
وأخرج أبو داود والنّسائي عن أبي الجعد الضّمري وكانت له صحبة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع اللّه على قلبه ومن طبع اللّه على قلبه يجعله في أسفل درك جهنم». وللترمذي مثله.
وروى البخاري عن سلمان قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطّهور ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلم يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى».
وفي رواية وزيادة ثلاثة أيام ومن مسّ الحصى فقد لغا أي اشتغل عن سماع الخطبة به.
وأخرج أبو داود والنّسائي عن أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول «من غسّل واغتسل وبكّر وابتكر ومشى ولم يركب ودنى من الإمام ولم يلغ واستمع كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها».
واعلم أن بعض العلماء حسن الانصراف بعد سلام الإمام محتجا بقوله تعالى: {فَانْتَشِرُوا} وهو خطأ، لأن اللّه تعالى قال فإذا قضيت الصّلاة إذا سلم الإمام وإن صلاة سنة الجمعة البعدية والأوراد التي أمر رسول بها بعد الصّلوات من تمام الصّلاة لما يترتب عليها من الأجر العظيم عند اللّه تعالى كما أخبر به رسوله والتحذير من تركها حرمانه من الأجر الذي أخبر به حضرة الرّسول، وفي الأخذ بقول هذا المتطفل ترغيب لترك السّنة التي أمر رسول اللّه بفعلها بعد الفرائض التي منها الجمعة، وترك التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير بعد الصّلوات التي أمر رسول اللّه بتلاوتها أيضا، فعلى أرباب العقول أن لا يأخذوا بأقوال هكذا عندية مبنية على ما تخيلوه تأويلا وتفسيرا، وأن يتمسكوا بظاهر الشرع وما عليه السّلف الصّالح ومن تبعهم من العلماء العاملين، لأن الذي يبادر الباب بعد السلام كأنه فارّ من قفص أو هارب مما يكره كأنه ليس له عند ربه حاجة يدعوه بها، وكأنه تخلص من كان على عاتقه في الصّلاة، والأحسن له من أن يسابق غيره إلى الخروج من المسجد ويندفع معه على الباب أو يقف ليتحين الفرصة بوجود فرجة يخرج منها أن يصلي على الأقل ركعتين بعدها ويتلو الأوراد ثم يخرج بهدوء وسكينة، فقد جاء في صحيح مسلم سنته أربع ركعات بعد الجمعة وفيه «من شغله أمر فليركع ركعتين في المسجد وركعتين في بيته»، لأن هذا الفعل تهاونا في الجمعة، وقد أجمعت الفقهاء على سنيتها.
هذا وقد بينا ما يتعلق بالأذكار الواردة بعد الصّلوات في الآية 39 من سورة ق والآية 92 من الفرقان وفيهما يرشدانك إلى المواضع الأخرى.
أما ما جاء في فضل التبكير للجمعة فمنه ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في السّاعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في السّاعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في السّاعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في السّاعة الرّابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في السّاعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا أحرم الإمام قعدت الملائكة يستمعون الذكر».
وفي رواية «كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأوّل فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصّحف» (وكلمة راح في الحديث السّابق بمعنى خف إلى الصّلاة ومشى إليها وأخذته الأريحية طلبا لثواب اللّه تعالى).
وروى البخاري عن عبادة قال أدركني أبو عيسى وأنا ذاهب إلى الجمعة، فقال سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول «من اغبرت قدماه في سبيل اللّه حرمه اللّه على النّار».
فقد جعل الذهاب إلى الجمعة بمنزلة الذهاب إلى الجهاد في سبيل اللّه.
فما بال أناس يتركونها بلا عذر ويحرمون أنفسهم هذا الثواب العظيم، ويتعرضون لمقت اللّه؟ روى مسلم عن ابن مسعود رضي اللّه عنه عن النّبي صلى الله عليه وسلم: «قال لقوم يتخلفون عن الجمعة هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم».
وعن أبي الجعد الضّمري وكان له صحبة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع اللّه على قلبه»- أخرجه أبو داود والنّسائي- وورد عنه عليه السلام في حديث طويل قال فيه «واعلموا أن اللّه فرض عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا، من تركها تهاونا واستخفافا بحقها وله إمام عادل أو جائر فلا جمع اللّه شمله ولا بارك له في أمره، ألا فلا صلاة له، ألا فلا زكاة له، ألا فلا صوم له، إلا أن يتوب فمن تاب تاب اللّه عليه».
وحديث مسلم الذي أشرنا إليه آنفا هو أنه قال: «إذا صليتم الجمعة فصلوا بعدها أربعا فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت»، وسنده فيه فراجعه فما بعد هذا عذر لمن يخرج فورا، ولنا رسالة خاصة في هذا البحث، وفي الأوراد والسّنن التي ينبغي فعلها بعد الفرائض في الرّد على من منعها أو حبذ تركها.
هذا واللّه أعلم وأستغفر اللّه ولا حول ولا قوة إلّا باللّه العلي العظيم وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين. اهـ.